غزوة بني النضير
مضى فيما سبق : انه لما دخل رسول اللّه (ص) المدينة صالحه بنو النضير كبقيّة اليهود على أن لايقاتلوه، ولايقاتلوا معه، فقبل ذلك منهم.
فلما غزا رسول اللّه (ص) بدراً وظهر على المشركين قالوا: واللّه انه للنبيّ الذي وجدنا نعته في التوراة لاتردّ له راية، فلما غزا اُحد وانهزم المسلمون ارتابوا ونقضوا العهد وأتوا قريشاً وحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد (ص)، فنزل جبرئيل وأخبر النبي (ص) بالخبر.
ولكي يظهر النبي (ص) نوايا بني النضير العدوانية التي أضمروها للمسلمين، ويكشف واقعهم السيّء للرأي العام، خرج (ص) إليهم يوم السبت في شهر ربيع الأول وصلى في مسجد قبا ومعه نفر من أصحابه دون العشرة، ثم أتاهم فكلّمهم أن يقرضوه في دية بعض القتلى ـ وكان الإستقراض جارياً بينهم ـ فقالوا: نقرضك ما أحببت.
ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذه الحال. وكان (ص) إلى جنب جدار من بيوتهم.
فقالوا : من رجل يعلو على هذا البيت فيلقي هذه الصخرة عليه فيقتله ويريحنا منه؟
فانتدب لذلك عمرو بن جحاش، فقال: أنا لذلك.
فقال سلام بن مشكم: لا تفعلوا، واللّه ليخبرنّ بما هممتم به، وانه لنقض العهد الذي بيننا وبينه.
فجاء جبرئيل وأخبر رسول اللّه (ص) الخبر، فخرج راجعاً إلى المدينة، وذلك بعد أن أوصى علياً (ع) بأن لايبرح من مكانه، وأن يخبر من سأله عنه من أصحابه بتوجّهه إلى المدينة، ففعل ذلك، ثم لحقوا به فقالوا: قمت يا رسول اللّه ولم نشعر.
فقال : همّت اليهود بالغدر فأخبرني اللّه بذلك فقمت.
ثم أرسل (ص) إليهم من يأمرهم بالجلاء من منازلهم، وكانت منازلهم بناحية الفرع وما والاها بقرية يقال لها: زهرة، وأمهلهم عشرة أيام.
فوصل الخبر إلى ابن اُبي فأرسل إليهم من ينهاهم عن الخروج ويعدهم نصرة قومه لهم، وامداد قريظة وحلفاءهم من غطفان، فطمعوا في ذلك.
فخرج إليهم رسول اللّه (ص) فصلّى العصر بفناء بني النضير وعلي (ع) يحمل رايته واستخلف على المدينة ابن اُمّ مكتوم.
فلما رأوا رسول اللّه (ص) قاموا على حصونهم معهم النبل والحجارة، فاعتزلتهم قريظة، وخفرهم ابن اُبيّ، فحاصرهم رسول اللّه (ص) إحدى وعشرين ليلة، وقذف اللّه الرعب في قلوبهم فعزموا على الخروج من المدينة من دون قتال.
فقال لهم رسول اللّه (ص): اُخرجوا منها ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة وهي السلاح.
فخرجوا بالنساء والصبيان يزمّرون ويضربون بالدفوف، وتحمّلوا على ستمائة بعير حتى ان الرجل منهم يقلع باب بيته ويضعه على بعيره، ثم يخربون بيوتهم بأيديهم ويخرجون، فمنهم من صار إلى خيبر، ومنهم من صار إلى الشام، ومنهم من صار إلى الحيرة.
أموال بني النضير
وقبض رسول اللّه (ص) السلاح والأموال صافية له، لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، وانما قذف اللّه في قلوبهم الرعب، فسلّموا بدون قتال ولا اراقة دماء، فكان ممّا أفاءه اللّه على رسوله.
فدعى رسول اللّه (ص) حينئذ الأنصار كلها الأوس والخزرج، فحمد اللّه وأثنى عليه وذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، وانزالهم إيّاهم في منازلهم، واثرتهم على أنفسهم، ثم قال (ص): ان أحببتم قسّمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء اللّه عليّ من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم.
فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: يا رسول اللّه بل تقسّمه للمهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا.
ونادت الأنصار: رضينا وسلّمنا يا رسول اللّه.
فقال رسول اللّه (ص): (اللّهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار) وقسّم ما أفاء اللّه عليه بين المهاجرين دون الأنصار إلا رجلين من الأنصار كانا محتاجين، ووسّع (ص) في الناس في أموال بني النضير، وأنزل اللّه تعالى في قصة بني النضير سورة الحشر، ومدح الأنصار ـ على رواية ـ بقوله: (ويؤثرون على أنفسهم)(1).
وفي مجمع البيان عن أبي هريرة: ان الآية نزلت في شأن علي (ع) وفاطمة(ع) في ضيافة كانت لهما قد آثرا ضيفهما على أنفسهما.
وفي هذه الغزوة أبلى علي (ع) بلاءاً حسناً حيث قتل اليهود العشرة بقيادة رئيسهم عازورا الذين خرجوا من الحصن في ظلام الليل لعمليات تخريبية واغتيال النبي (ص) وكفى اللّه المؤمنين به شرهم، وفيه يقول حسّان بن ثابت:
اللّـــــه أيّ كريـــهـــــــة أبليتها بــــبني نضير والنفوس تطلّع
أردى رئيســـهم وآب بتســـــعة طـــــوراً يشــلّهم وطوراً يدفع
من أسلم من بني النضير
ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير، وهو ابن عم عمرو بن جحاش الذي انتدب لإلقاء الصخرة على رسول اللّه (ص)، وأبو سعد بن وهب.
أسلما على أموالهما، واحرازها، وحسن اسلامهما، حتى أن يامين على ما قيل: جعل لرجل جعلاً على أن يقتل له ابن عمه عمرو بن جحاش على ما أراده من اغتيال رسول اللّه (ص) ففعل الرجل ذلك.
غزوة بني لحيان
ثم كانت بعد غزوة بني النضير غزوة بني لحيان، فقد خرج اليهم رسول اللّه (ص) يطلب بأصحاب الرجيع الذين غدر بهم بنو لحيان وقتلوهم عن آخرهم.
وأظهر (ص) عند خروجه إليهم انه يريد الشام ليصيب من القوم غرة يفاجئهم بها فيستسلموا من دون حرب فيقل القتل وسفك الدماء، ولذلك خرج (ص) وأخذ في السير حتى نزل على منازل بني لحيان بين أمَج وعسفان، فوجدهم قد حذروا وتمنّعوا في رؤس الجبال، فتركهم.
عندها قال المسلمون: لو انا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة انا قد جئنا مكة، فسار (ص) وهو في مائتي راكب حتى نزل عسفان تخويفاً لمشركي مكة، وجاز على قبر اُمه فزارها، وأرسل فارسين من الصحابة حتى بلغا كراع الغميم، ثم عادَ ولم يلق حرباً.